فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة القدر:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر (1) وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خَيْرٌ مِّنْ ألف شهر (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أمر (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر (5)}
تعريف بسورة القدر:
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا. العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير. بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود. نور الله المشرق في قرآنه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ والأعلى.
{تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}..ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود: {سلام هي حتى مطلع الفجر}.
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم}..والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان، كما ورد في سورة البقرة: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الناس. وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء.
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة. بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان. وبعضها يعين الليلةالواحدة والعشرين. وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة. وبعضها يطلقها في رمضان كله. فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار.
واسمها: (ليلة القدر)..قد يكون معناه التقدير والتدبير. وقد يكون معناه القيمة والمقام. وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم. حدث القرآن والوحي والرسالة..وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود. وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد. وهي خير من ألف شهر. والعدد لا يفيد التحديد. في مثل هذه المواضع من القرآن. إنما هو يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر. فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات.
والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري: {وما أدراك ما ليلة القدر} وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة. فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن. وإفاضة هذا النور على الوجود كله، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير. وتنزيل الملائكة وجبريل- عليه السلام- خاصة، بإذن ربهم، ومعهم هذا القرآن- باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة- وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني، الذي تصوره كلمات السورة تصويرا عجيبا..
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة، ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها، ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان، وفي واقع الأرض، وفي تصورات القلوب والعقول..فإننا نرى أمرا عظيما حقا. وندرك طرفا من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة: {وما أدراك ما ليلة القدر}.
ولقد فرق فيها من كل أمر حكيم. وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين. وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد. أقدار أمم ودول وشعوب. بل أكثر وأعظم..أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!
ولقد تغفل البشرية- لجهالتها ونكد طالعها- عن قدر ليلة القدر.
وعن حقيقة ذلك الحدث، وعظمة هذا الأمر. وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي- سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع- الذي وهبها إياه الإسلام. ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة. فهي شقية، شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش!
لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى. وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب. فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليين..
ونحن- المؤمنين- مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى؛ وقد جعل لنا نبينا صلى الله عليه وسلم سبيلا هينا لينا لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبدا، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها..وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام، ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان..في الصحيحين: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان»..وفي الصحيحين كذلك: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»..والإسلام ليس شكليات ظاهرية. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام في هذه الليلة أن يكون «إيمانا واحتسابا»..وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة «إيمانا» وليكون تجردا لله وخلوصا «واحتسابا»..ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام. ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن.
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير، ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير.
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك. وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة، وعن غير طريقها، لا يقر هذه الحقائق، ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة..
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيمانا واحتسابا، هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

سورة القدر:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر (1)}
الضمير في أنزلناه للقرآن قطعًا.
وحكى الألوسي عليه الإجماع، وقال: ما يفيد أن هناك قولا ضعيفًا لا يعتبر من أنه لجبريل.
وما قاله عن الضعف لهذا القول، يشهد له السياق، وهو قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} [القدر: 4].
والمشهور: أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره، وجيء بضمير الغيبة، تعظيمًا لشأن القرآن، وإشعارًا بعلو قدره.
وقد يقال: ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله: {اقرأ باسم رَبِّكَ} [العلق: 1]، ثم جاءت {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} [القدر: 1]، أي القرآن المقروء، والضمير المتصل في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم، ومثلها نحن، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، والمراد بهما هنا التعظيم قطعًا لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع.
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى: {الله نَزَّلَ أحسن الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} [الزمر: 23]، والمراد به القرآن قطعًا، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى.
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه، ومثله {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} [الكوثر: 1]، وقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1]، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق: 43]، وإنزال القرآن منه عظمى.
وقد دل تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ} [ص: 29]، فقال: كتاب أنولناه بضمير التعظيم، ثم قال في وصف الكتاب: مبارك.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية ص هذه {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29].
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد، فمن صيغ الجمع ما تقدم، ومن صيغ الإفراد قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله: {إِذْ قال رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ} [ص: 71]، وقوله: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
ويلاحظ في صيغ الإفراد: أنها في مواضع التعظيم والإجلال، كالأول في مقام خلق البشر من طين، ولا يقدر عليه إلا الله.
والثاني: في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو بالإفراد، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها، وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق.
ثم اختلف في المُنزلِ ليلة القدر، هل هو الكل أو البعض؟
فقيل: وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي بداية الوحي بالقرآن، وهو مروي عن ابن عباس، قال: «ثم تتالى نزول الوحي، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة».
وقيل: المنزل في تلك الليلة، هو جميع القرآن جملة واحدة، وكله إلى سماء الدنيا، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجمًا حسب الوقائع.
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185]، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع.
وعن ابن حجر في فتح الباري، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين، وهو أنه لا منافاة بين القولين، ويمكن الجمع بينهما، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، وبدء نزول أوله {اقرأ باسم رَبِّكَ} [العلق: 1]، في ليلة القدر.
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ، وأن الله لم يتكلم به، عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك، وكتب جوابه وطبع، فكان كافيًا. وقد نقل فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه، ورد على كل شبهة في ذلك.
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم، بين كوه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجمًا، لأن كونه في اللوح المحفوظ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا، فهو بمثالة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن، فأصبح القرآن موجودًا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه، وموجودًا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجمًا.
ومعلوم أنه الآن هو أيضًا موجود في اللوح المحفوظ، لم يخل منه اللوح، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجمًا بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4]، أي في كل ليلة قدر.
وقد جاء {أَنزَلْنَاهُ}، فتدل على الجملة.
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله: كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم. قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير» الحديث في صحيح البخاري.
وفي أبي داود وغيره «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان».
وعلى هذا يكون القرآن موجودًا في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر، ثم نزل منجمًا في عشرين سنة.
وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله، فيسمعه جبريل عليه السلام عن الله تعالى. ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث. والله تعالى أعلم.
وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي.
وقيل: معنى {أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر}، أي أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيمًا لها، فلم تكن ظرفًا على هذا الوجه.
والواقع: أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكنًا إلا أن ما بعده يغني عنه، لأن عظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلًا، وهو ما بعدها مباشرة في قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ ما ليلة القدر ليلة القدر خَيْرٌ مِّنْ ألف شهر} [القدر: 2- 3]، إلى آخر السورة.
وعليه، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها.
وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة، ولكن جاء في القرآن ما يعين الشهر التي هي فيه، وهو شهر رمضان لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك، وأنها الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم بعض الناس.
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان الحكمة من إنزاله مفرقًا عند قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب} [ص: 29].
{ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر (3)}
القدر: الرفعة، والقدر: بمعنى المقدار.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء ووجه تسميتها ليلة القدر فيه وجهان:
أحدهما: أن معنى القدر الشرف والرفعة، كما تقول العرب: فلان ذو قدر، أي رفعة وشرف.
الوجع.
الثاني: أنها سميت ليلة القدر، لأن الله تعالى يقدر فيها وقائع السنة، ويدل لهذا التفسير الأخير قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ أمرا مِّنْ عِنْدِنَآ} [الدخان: 3- 5].
وهذا المعنى قد ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان من الأضواء.
والواقع أن في السورة ما يدل للوجه وهو القدر والرفعة، وهو قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ ما ليلة القدر ليلة القدر خَيْرٌ مِّنْ ألف شهر} [القدر: 2- 3].
فالتساؤل بهذا الأسلوب للتعظيم كقوله: {القارعة مَا القارعة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} [القارعة: 1- 3]، وقوله: {خَيْرٌ مِّنْ ألف شهر}، فيه النص صراحة على علو قدرها ورفعتها، إذ أنها تعدل في الزمن فوق ثلاث وثمانين سنة، أي فوق متوسط أعمار هذه الأمة.
وأيضًا كونها اختصت بإنزال القرآن فيها، وبتنزل الملائكة والروح فيها، وبكونها سلامًا هي حتى مطلع الفجر، لفيه الكفاية بما لم تختص وتشاركها في ليلة القدر من ليالي السنة.
وعليه: فلا مانع من أن تكون سميت بليلة القدر، لكونها محلًا لتقدير الأمور في كل سنة، وأنها بهذا وبغيره علا قدرها وعظم شأنها، والله تعالى أعلم، تذكير بنعمة كبرى.
إذا كانت أعمال العبد تتضاعف في تلك الليلة، حتى تكون خيرًا من ألف شهر، كما في هذا النص الكريم. فإذا صادفها العبد في المسجد النبوي يصلي، وصلاة فيه بألف صلاة، فكم تكون النعمة وعظم المنة، من المنعم المتفضل سبحانه، إنه لمما يعلي الهمة ويعظم الرغبة.
وقد اقتصرت على ذكر المسجد النبوي دون المسجد الحرام، مع زيادة المضاعفة فيه، لأن بعض المفسرين قال بمضاعفة السيئة فيها.
كذلك أي أن المعصية في ليلة القدر كالمعصية في ألف شهر، والمسجد الحرام يحاسب فيه العبد على مجرد الإرادة، فيكون الخطر أعظم، وفي المدينة أسلم.
ولعل مما يؤيد ذلك أن ليالي القدر كلها، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وقد أثبتها أهل السنة كافة، وادعت الشيعة نسخها ورفعها كلية، وهذا لا يلتفت إليه لصحة النصوص وشبه المتواترة.
تنبيه:
لم يأت تحديد لتلك الليلة من أي رمضان تكون، وقد أكثر العلماء في ذلك القول وإيراد النصوص.
فالأقوال منها على أعن ما يكون، من أنها في عموم السنة، وهذا لم يأت بجديد، وهو عن ابن مسعود وإنما أراد الاجتهاد. ومنها: أنها في عموم رمضان، وهذا حسب عموم نص القرآن.
ومنها: أنها في العشر الأواخر منه، وهذا أخص من الذي قبله.
ومنها: أنها في الوتر من العشر الأواخر، وهذا أخص من الذي قبله.
ومنها: أنها في آحاد الوتر من العشر الأواخر.
فقيل: في إحدى وعشرين.
وقيل: ثلاث وعشرين.
وقيل: خمس وعشرين.
وقيل: سبع وعشرين.
وقيل: تسع وعشرين.
زقيل: آخر ليلة من رمضان على التعيين، وفي كل ليلة من ذلك نصوص.
ولكن أشهرها وأكثرها وأصحها، ما جاء في سبع وعشرين، وإحدى وعشرين، ولا حاجة إلى سرد النصوص الواردة في كل ذلك، فم يبق كتاب من كتب التفسير إلا ذكرها، ولاسيما ابن كثير والقرطبي.
تنبيه:
إذا كانت كل النصوص التي وردت في الوتر من العشر الأواخر صحيحه، فإنه لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بينها، وليست بلازمة في ليلة منها ولا تخرج عنها، فقد تكون في سنة هي ليلة إحدى وعشرين، بينما في سنة أخرى ليلة خمس أو سبع وعشرين، وفي أخرى ليلة ثلاث أو تسع وعشرين، وهكذا. والله تعالى أعلم.
وقد حكى هذا الوجه ابن كثير عن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقال: وهو الأشبه، والله تعالى أعلم.
وقد قيل: إنه صلى الله عليه وسلم قد أنسيها، لتجتهد الأمة في الشهر كله أو في العشر كلها، ومما يؤكد أنها في العشر الأواخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم، التماسًا لليلة القدر.
وقد جاء في فضلها ما استفاضت به كتب الحديث والتفسير، ويكفي فيها نص القرآن الكريم.
وفي هذه الليلة مباحث عديدة يطول تتبعها، منها ما يذكر من أماراتها.
ومنها: محاولة البعض استخراجها من القرآن.
ومنها: عرقتهم بحكم بني أمية، وليس على شيء من ذلك نص يمكن التعويل عليه، لذا لا حاجة إلى إيراده، اللَّهم إلا ما جاء في بعض أمارات نهارها صبيحتها، حيث جاء التنويه عن شيء منه في الحديث: «ورأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين».
فذكروا من علامات يومها أن تطلع الشمس بيضاء، وقالوا: لأن أنوار الملائكة عند صعودها، تتلاقى مع أشعة الشمس فتحدث فيها بياض الضوء، وهذا مروي عن أُّبي في صحيح مسلم.
ومنها: اعتدال هوائها وجوّها ونحو ذلك، ومما يمكن أن يكون له صلة بالسورة ذاتها، ما حكاه ابن كثير أن بعض السلف، أراد استخراجها من كتاب الله في نفس السورة، فقال: إن كلمة هي في قوله: {سَلاَمٌ هِيَ} [القدر: 5]، تقع السابعة والعشرين من عد كلماتها، فتكون ليلة سبع وعشرين.
وقيل أيضا: إن حروف كلمة ليلة القدر تسعة أحرف، وقد تكررت ثلاث مرات، فيكون مجموعها سبعة وعشرين حرفًا، فتكون ليلة سبع وعشرين.
ولعل أصوب ما يقال: هو ما قدمنا من أنها تتصل في ليالي الوتر من العشر الأواخر، ولا تخرج عنها. والله تعالى أعلم.
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أمر (4)}
قيل: الروح هو جبريل، كما في قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91]، ويكون فيها أي في جماعة الملائكة، أو معطوف على الملائكة من عطف الخاص على العام.
وقيل: إن الروح نوع من الملائكة مستقل، ويكون فيها ظرف للنزول أي في تلك الليلة.
قوله تعالى: {مِّن كُلِّ أمر}.
الأمر يكون واحد الأمور وواحد الأوأمر، والذي يظهر أنه شامل لهما معًا، لأن الأمر من الأمور لا يكون إلا بأمر من الأوأمر {إِنَّمَآ أمرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقول لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
ويشهد له ما جاء في شأنها في سورة الدخان {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ أمرا مِّنْ عِنْدِنَآ} [الدخان: 4- 5].
والذي يفرق من الأمر، هو أحد الأمور. حيث يفصل بين الخير والشر والضر والنفع إلى آخره، ثم قال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الدخان: 8]، كما أشار إليه السياق: {أمرا مِّنْ عِنْدِنَآ} [الدخان: 5]، فكل أمر من الأمور يقتضي أمرا من الأوأمر، وهذا يمكن أن يكون من الألفاظ المشتركة المستعملة في معنييها، والله تعالى أعلم.
{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر (5)}
قيل: سلام، هي أن الملائكة تسلم على كل مؤمن لقيته.
وقيل: سلام، عي أي كل أمر فيها هو سلام، ولا يصاب أحد فيها بسوء، وعلى كل فلا تعارض بين القولين، فالأول جزء من الثاني، لأن الثاني يجعلها ظرفًا لكل خير، وينفي عنها كل شر، ومن الخير العظيم، سلام الملائكة على المؤمنين.
لطيفة:
كون إنزال القرآن هنا في الليل دون النهار، مشعر بفضل اختصاص الليل.
وقد أشار القرآن والسنة إلى نظائره، فمن القرآن قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، ومنه قوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79]، {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السجود} [ق: 40]، {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطًْا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]، وقوله: {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان ثلث الليل الآخر، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» الحديث.
وهذا يدل على ان الليل أخص بالنفحات الإلهية، وبتجليات الرب سبحانه لعباده، وذلك لخلو القلب وانقطاع الشواغل وسكون الليل، ورهبته أقوى على استحضار القلب وصفائه. اهـ.